كما تشرق الشمس بعد ظلمة الليل بالسنا الوضاء لتغمر آفاق الكون بالضياء يشرق نور المعرفة في قلب الولي بعد انقشاع الحجب التي كانت تحول بينه وبين مصدر الاستشراف . فأذا بجوهر العبد يتحول من إنيته الترابية إلى روح نيرة وشفافة متصلة بالله واذا بتلك الروح تصفو وتترقى في معاريج الصفاء في رحلة النور الى منتهى الغايات وان الى ربك المنتهى .
وممن أنتهت غاياتهم الى الله وشربت أرواحهم من معين الحب الإلهي الإمام العارف : سيدي أبو محفوظ معروف الكرخي .
فهو أحد من حظوا من الله تعالى بموفور العناية وكمال الرعاية فجالت أرواحهم في ملكوت الله سابحة في النور الإلهي عابدة أوابة تستمطر الفيوضات الربانية وتستلهم اللطائف الرحمانية , إنهم جنود الله وحراسه على شريعته وطريقته وحقيقته .
وسيدي معروف هو شيخ التصوف بالعراق في عصره , وقد أنتهه اليه تربية المريدين وإمامة المربين , وقد شهد له مشايخ عصره بأنه لم يكن في زمنه من يربي المريدين مثله . وناهيك بمن هو شيخ للسري السقطي الذي هو شيخ الإمام الجنيد سيد الطائفة الصوفية لذا فهو يعتبر بحق شيخا للسلسلة الصوفية التي نهلت من نبع آل البيت واستمدت من أنوارهم ضياءها .
فسيدي معروف هو واسطة العقد النفيس بين ال البيت وأقطاب التصوف , وقد امتدت حياته في القرن الثاني حتى نهايته حيث أرخ لوفاته بسنة مائيتن أو احدى أو اربع ومائتين هـ والاول هو الصحيح كما حققه الذهبي .
ولقد كانت حياة سيدي معروف وقفا على طاعته لربه وعبوديته الصادقة لله فلم تشبها رائحة الدنيا , ولم يكن فيها متسع لمأرب آخرسوى الاتصال بالله فقد نذر حياته لله تعالى ولم يأل جهدا في وفائه بحق هذا النذر فلم تسترع الدنيا منه ادنى التفاتة , لانه أدرك انها دنيا , ومن تعلق بها قلبه فهو دني الهمة آبق من سيده , فار من ساحة الميدان .
وحينما نتصفح سيرة الإمام الكرخي نقف في السطور الاولى من تاريخ حياته على احداث عدة تلقى أضواءها على هذه الشخصية الفذة التي توافرت لها سبل الرعاية الإلهية والعناية الربانية .
فلقد ولد من أبوين كانا يعتنقان النصرانية وما أن بدأ يستقبل بواكير صباه حتى أسلمه أبواه للمعلم ليلقنه تعاليم النصرانية . فأخذه وصار يقول له قل : ثالث ثلاثة.
فيقول له : بل إله واحد , فيكرر عليه المعلم قولته , وتصمد الفطرة المؤمنة أمام كلمة الكفر حتى لم يجد المعلم بدا من اللجوء الى القوة والاكراه فضربه ضربا مبرحا ليكرهه على دينه جبرا وتعسفا فهرب سيدي معروف منه ومن أبويه , او بالاحرى فر الى ربه , فألقت به العناية الالهية في احضان بيت النبوة إذ التقى بفرع الدوحة النبوية سيدي علي بن موسى الرضا وعنا به . فتلقنه يَدُ حانية لتمسح عنه آلامه ثم لتغسل عنه أدرانه ثم لتملأ قلبه بالنور , فعب من نبع الهدى والصفا وشرب من منهل الحنيفية السمحاء , ولما أفتقد والداه صارا يقولان : ليته يرجع الينا على أي دين شاء فنوافقه عليه . وذات يوم دق الباب . فقيل من ؟
قال معروف .
فقالا له :على أي دين انت ؟
فقال :على الاسلام . فأسلم أبواه . وبذا سجل العارف معروف أول فتح للاسلام على يديه مبتدئا بأبويه , وحين اخذ مفتاح فتوحه من سيدي علي الرضا كان قد بدأ حياة جديدة قوامها الجهاد الاكبر وهو جهاد النفس في طاعة الله واقتفاء أثر السلف الصالح وتزود لكل ذلك بالعلم فتضلع منه حتى كان مرجعا للائمة في عصره فقد ذكر الإمام الغزالي ان الإمام احمد بن حنبل كان يختلف اليه هو وابن معين ويسالانه ولم يكن في علم الظاهر مثلهما – فيقال لهما :مثلكما يفعل ذلك , فيقولان كيف نفعل إذا جاءنا أمر لم نجده في كتاب الله ولا سنة رسوله وقد قال المصطفى سلوا الصالحين .
وكان الإمام الكرخي ذا رواية في الحديث , ويذكر الحافظ ابو نعيم ان من مسانيد حديثه هذا الحديث الذي رواه عن عبد الله بن موسى عن عبد الاعلى بن أعين عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن السيدة عائشة فقالت قال رسول الله الشرك أخفى في امتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه ان تحب على شيء من الجور أو تبغض على شيء من العدل . وهل الدين الا الحب في الله والبغض في الله ؟ قال الله قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله .
وكان الإمام معروف الكرخي – وهو شيخ وامام في علوم القوم- ذا منهج خاص في التربية الصوفية ويتضح هذا المنهج من تتبع أقوله الماثورة في التصوف والتي تنبئ عن علو قدمه في ميدان المعرفة .
فقد سئل سيدي معروف عن حقيقة الوفاء فقال , حقيقة الوفاء : إفاقة السر عن رقدة الغفلات وفراغ الهم من فضول الافات .
وخلاصة جوابه هي تخلية السر لله وتصفية القلب من الغفلة ومن كل ما من شأنه ان يشغل عن الله .
وسئل : بم تخرج الدنيا من القلب ؟
فقال : بصفاء الود وحسن المعاملة . وللصفاء علامات ثلاث , وفاء بلا خلاف وعطاء بلا سؤال ومدح بلا جود .
ويقول : ( وعلامة الأولياء ثلاثة : همومهم لله , وشغلهم فيه وفرارهم اليه )
وساله ابو سليمان الداراني عن الطائعين بأي شيء قدروا على الطاعة ؟
فقال : بأخراج الدنيا من قلوبهم , ولو كان منها شيء في قلوبهم ما صحت لهم سجدة ) !! .
ارأيت الى هذا المعراج السامي في مراقي الحقائق ؟ ان الإمام معروف الكرخي لم ينطق بهذه الكلمات الا بعد ان تحقق بها , لذلك فان كلماته تنفذ الى القلب لانها من القلب ولانها صدرت عن اخلاص لله وبغير ذلك لا يمكن ان تثمر الكلمات . ولقد ترجم سيدي معروف سلوكه مع الله في هذه الكلمات التي فيها غذاء القلب وقوت الروح .
انه يقول : ( توكل على الله حتى يكون هو معلمك ومؤنسك وموضع شكواك , ويكن ذكر الموت جليسك لا يفارقك ) .
ان من يفعل ذلك فقد صار محلا لولاية الله وهنا تتنزل عليه الرحمات وتفيض عليه الالهامات وتخرق له العادات لانه صار ربانيا يسمع بالله ويبصر بالله ويفعل كل شيء بالله ويفعل كل شيء بالله ولانه جاهد في الله حق جهاده . ومما وقع لسيدي معروف من الكرامات ما رواه صاحب الحلية عن ابراهيم بن عبد الله بن اسحق عن محمد بن اسحق النقنى قال سمعت ابا سليمان الرومي يقول سمعت خليلا الصياد يقول : غاب ابني محمد فجزعت امه جزعا شديدا فأتيت معروفا فقلت : يا أبا محفوظ .
قال : ما تشاء ؟
قلت :- ابني محمد غاب وجزعت امه جزعا شديدا فادع الله ان يرده عليها .
فقال : اللهم ان السماء سماؤك والارض أرضك وما بينها لك فأت به .
قال خليل : فأتيت باب الشام فاذا ابني محمد قائم منبهر.
قلت : محمد ؟
قال :- يا أبت كنت الساعة بالانبار !!
وليس عجيبا ان يجيب الله دعاء من أطاعه مهما كان خارقا للعادة , وليس عجيبا أن تخرق العادة لمن خرج عن مالوف عادته بجهاده لنفسه في طاعة الله بل أن خرقه للعادة أقل القليل بالنسبة لعطاء هؤلاء الصفوة الخواص , انهم أهل الحضرة الالهية وضنائن الله في خلقه .
يقول العارف السري السقطي ( رايت معروفا الكرخي في النوم كانه تحت العرش والباري جلت قدرته يقول لملائكته : من هذا ؟ ووهم يقولون انت أعلم يا ربنا منا فقال هذا معروف الكرخي سكر من حبي فلا يفيق الا بلقائي !!)
هذه هي منزلة سيدي معروف قد أراها الله لخليفته سيدي السري الذي أخذ عنه الطريق . ومنازل الاولياء في الحقيقة لا يعلمها الا الله وانما هي اشارات تقربنا منهم وتدلنا عليهم وتخبرنا بمدى صدقهم مع الله .
ولقد عرف الصوفية الطريق الى الله تعالى فسلكوه ولم يلتفتوا عنه طرففة عين وحسبنا من العلم وبمنازلهم أنهم آثروا الله على كل شيء فمنحهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
ان الإمام العارف سيدي معروفا الكرخي قد أجمعت آراء صفوة العارفين على إمامته في علوم القوم وعلى انه كان فريدا في عصره علما وذوقا وسلوكا وشرب من واحة آل البيت حتى أرتوى وأروى وفاضت من ينبوع معرفته لطائف الاشارات التي قادت قلوبا وارواحا الى الله تعالى وهو الذي استغرقت محبة الله روحه وانفاسه فعاش عيشة الابرار ولقى ربه مع المصطفين الاخيار ورضي عنا به وأمدنا ببركاته دنيا وآخرة آمين , لقد كان الإمام معروف كما قال الحافظ الذهبي في صدارة ترجمته ( علم الزهاد . بركة العصر ) ولا يدلك على العارف الا عارف مثله .
فقد روى عن سيدنا سفيان بن عينية انه قال لمعاصره اسماعيل بن شداد : ما فعل ذلك الحبر الذي فيكم ببغداد ؟
فقال من هو ؟
قال : أبو محفوظ معروف .
قال : بخير .
فقال الإمام سفيان الثوري : ( لا يزال أهل تلك المدينة بخير ما بقى ) .
كما ذكر الحافظ الذهبي من كرامات سيدي معروف ان ابن شيرويه قال : قلت لمعروف : بلغني أنك تمشي على الماء .
فقال له ما وقع هذا , ولكن إذا هممت بالعبور جمع لي طرفا النهر فاتخطاه .
ان سيدي معروفا ممن لهم جاه عظيم يتوسل به الى الله , فقد روى الإمام القشيري انه قال لمريده الإمام السري السقطي ( إذا كانت لك حاجة الى الله فاقسم عليه به ) !!
الا وان جاهه عند الله لم ينقطع بوفاته , فقد قال أبو عبد الرحمن السلمي في ترجمته : ( وهو من جلة المشايخ وقدمائهم و والمذكورين بالورع والفتوة كان استاذ السري السقطي : صحب داود الطائي , وقبره ببغداد ظاهر يستشفى به ويتبرك بزيارته ) . ثم روى عن ابراهيم بن الجوزي انه كان يقول ( قبر معروف الترياق المجرب ) وقد من الله على فقيره مؤلف هذا الكتاب بزيارة مقام الإمام معروف الكرخي ببغداد سنة 1990 م حيث كان في مؤتمر للمجلس الاعلى للشئون الإسلامية , افاض الله علينا ببركاته وحشرنا في زمرته .