أخي القارئ، اعلم أن العقيدة المنجية هي اعتقاد أن الله موجود بلا مكان ولا يسكن السماء ولا يجلس على العرش كما تقول اليهود والنصارى والمشبهة من الذين يدعون الاسلام. فاعتقاد اهل الحق، ان الله منزه عن التغير والحدوث. فالله كان موجوداً قبل خلق المخلوقات، كان موجوداً قبل المكان، قبل السماء وقبل الجهات، وقبل العرش وقبل الماء، وقبل كل شىء.
وهذا مصداق قول رسول الله: "كان الله ولم يكن شىء غيره". فالله لا يتغير، موجود قبل الخلق بلا مكان وهو الآن على ما عليه كان. قال سيدنا علي كرم الله وجهه: "كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان". أما أهل الحق، فقد أجمعوا على تنزيه الله عن المكان والجهات والحد والتغير والحدوث والجلوس والقعود وغيرها من العقائد التي تبثها المشبهة بين المسلمين.
يلي ذكر النقول من المذاهب الأربعة وغيرها على أن أهل السنة يقولون:
الله موجود بلامكان ولاجهة.
ا- قال مصباح التوحيد ومصباح التفريد الصحابي الجليل والخليفة الراشد سيدنا علي رضي الله عنه (40 هـ) ما نصه (1): (كان- الله- ولا مكان، وهو الان على ما- عليه- كان اهـ. أي بلا مكان.
2- وقال أيضا (2): "إن الله تعالى خلق العرش إظهارًا لقدرته لا مكانا
لذاته" أ هـ.
3- وقال أيضا (3): (من زعم أن إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود" اهـ. (المحدود: ما له حجم صغيرا كان أو كبيرا)
4- وقال التابعي الجليل الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم (94 هـ) ما نصه (4): (أنت الله الذي لا يحويك مكان" أ هـ.
5- وقال أيضا (5): (أنت الله الذي لا تحد فتكون محدودا) اهـ.
6- وقال الإمام جعفر الصادق (6) بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين رضوان الله عليهم (148 هـ) ما نصه (7): "من زعم أن الله في شىء، أو من شىء، أو على شىء فقد أشرك. إذ لو كان على شىء لكان محمولا، ولو كان في شىء لكان محصورا، ولو كان من شىء لكان محدثا- أي مخلوقا" أ هـ.
7- قال الإمام المجتهد أبو حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه (150 هـ) أحد مشاهير علماء السلف إمام المذهب الحنفي ما نصه (: "والله تعالى يرى في الآخرة، ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كميّة، ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة" اهـ.
8- وقال أيضا في كتابه الوصية (9): "ولقاء الله تعالى لأهل الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة حق" اهـ.
9- وقال أيضًا (10): " قلت: أرأيت لو قيل أين الله تعالى؟ فقال- أي أبو حنيفة-: يقال له كان الله تعالى ولا مكان قبل أن يخلق الخلق، وكان الله تعالى ولم يكن أين ولا خلق ولا شىء، وهو خالق كل شىء" اهـ.
15- وقال أيضا (11): "ونقر بأن الله سبحانه وتعالى على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة إليه واستقرار عليه، وهو حافظ العرش وغير العرش من غير احتياج، فلو كان محتاجا لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوقين، ولو كان محتاجا إلى الجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا" اهـ.
وهذا رد صريح على المشبهة المجسمة أدعياء السلفية الذين يسمون أنفسهم الوهابية ويزعمون أن السلف لم يصرحوا بنفي الجهة عن الله تعالى. فإن أبا حنيفة رأس من رءوس السلف الذين تلقوا العلم عن التابعين، والتابعون تلقوا العلم عن الصحابة رضي الله عنهم، فاحفظ هذا أخي المسلم فإنه مهم في رد افتراءات الوهابية على علماء السلف.
ونلفت النظر إلى أن أتباع أبي حنيفة أي الذين هم على مذهبه سواء في لبنان وسوريا وتركيا وأندنوسيا والهند وغيرها من البلدان على هذا المعتقد أي ينزهون الله تعالى عن التحيز في جهة فوق العرش ويقولون الله موجود بلا كيف ولا جهة ولا مكان، إلا من لحق منهم بأهل التجسيم الذين فتنوا بالوهابية وغرتهم الحياة الدنيا أو فتنوا بابن تيمية رافع لواء المجسمة في القرن السابع الهجري كابن أبي العز الحنفي الذي فتن به أي ابن تيمية فشرح العقيدة الطحاوية على خلاف منهج أهل الحق عامة وأهل مذهبه خاصة، فقد حشا شرحه وملاه بضلالات ابن تيمية، فإنه كالظّل له، ومما ذكره (12) في هذا الشرح من عقيدة ابن تيمية أن أهل السنة على زعمه يقولون بفناء النار أي عنده وعند ابن تيمية وعند الوهابية عذاب الكفار والمشركين والوثنيين الذين حاربوا الله وأنبياءه في نار جهنم ينتهي وينقطع مكذبين قول الله تعالى: (وَلَا يُخَفَّفُ عَنهُم مِن عَذَابِهَا) (سورة فاطر/36). ومما ذكره (13) أيضا من عقيدة ابن تيمية قوله بأزلية نوع العالم التي أخذها ابن تيمية عن الفلاسفة أي على زعمهم أن الله لم يخلق نوع العالم إنما خلق الأفراد فقط والعياذ بالله.
وقد اتفق علماء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها منذ زمن الصحابة إلى يومنا هذا على أن هاتين العقيدتين هما عقيدتان كفريتان لما في ذلك من تكذيب الله ورسوله، ومما علم من الدين بالضرورة أن النار باقية إلى ما لا نهاية له لأن الله شاء لها البقاء، وأن العالم كله مخلوق لله نوعه وأفراده، وهذا توارثه المسلمون خلفًا عن سلف لا يناقضه ولا يعارضه إلا من استحوذ الشيطان على قلبه وأضله الله وطمس على بصيرته.
ومن العجب مع ما في هذا الشرح لابن أبي العز الحنفي من ضلالات كثيرة أن الوهابية استحسنته وصاروا ينشرون هذه العقيدة الفاسدة بين المسلمين ويتدارسونه فيما بينهم، حتى قرروا تدريس هذا الشرح في المعاهد والكليات بالرياض (14) وادعوا (15) أن هذا الشرح يمثل عقيدة السلف أحسن تمثيل.
ونقول نحن: والذي أرواحنا بيده لقد كذبوا في ادعائهم وافترائهم على السلف كما هو دأبهم، وستكتب شهادتهم ويُسألون.
(1) و (2) الفرق بين الفرق لأبي منصور البغدادي (ص/333).
(3) حلية الأولياء: ترجمة علي بن أي طالب (73/1).
(4) و (5) إتحاف السادة المتقين (4/ 380).
(6) كان من سادات أهل البيت فقها وعلما وفضلاً (أنظر الثقات لابن حبان 6/ 131).
(7) ذكره القشيري في رسالته المعروفة بالرسالة القشيرية (ص/ 6).
( ذكره في الفقه الأكبر، أنظر شرح الفقه الأكبر لملا علي القاري (ص/ 136- 137).
(9) الوصية: (ص/ 4)، ونقله ملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر (ص/138).
(10) الفقه الأبسط ضمن مجموعة رسائل أبي حنيفة بتحقيق الكوثري (ص/ 25). ونقل ذلك أيضا المحدث الفقيه الشيخ عبد الله الهرري المعروف بالحبشي في كتابه الدليل القويم (ص/ 54).
(11) كتاب الوصية، ضمن مجموعة رسائل أبي حنيفة بتحقيق الكوثري (ص/ 2)، وذكره الشيخ الهرري
في كتابه الدليل (ص/ 54)، وملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر (ص/ 75) عند شرح قول الإمام: ولكن يده صفته بلا كيف".
(12) ذكر ذلك عند الكلام على قول الطحاوي (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان" : (ص/ 427 سطر 16 و. 2)، ط 9، عام 08 14 هـ.
(13) ذكر ذلك عند الكلام على قول الطحاري: "ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق): (ص/32 1 سطر 5- 6)، ط 9، عام 1988 ر.
(14) صحيفة 9 من الشرح.
(15) صحيفة 5 من الشرح.
وأما تكفير الإمام أبي حنيفة لمن يقول: "لا أعرف ربي فى السماء أو في الأرض "، وكذا من قال: "إنه على العرش، ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض " فلأن قائل هاتين العبارتين جعل الله تعالى مختصا بجهة وحيز ومكان، وكل ما هو مختص بالجهة والحيز فإنه محتاج محدث بالضرورة. وليس مراده كما زعم المشبهة إثبات أن السماء والعرش مكان لله تعالى، بدليل كلامه السابق الصريح في نفي الجهة والمكان عن الله.
وقال الشيخ الإمام العز بن عبد السلام الشافعي في كتابه "حل الرموز" في بيان مراد أبي حنيفة ما نصه (1): "لأن هذا القول يوهم أن للحق مكانا، ومن توهم أن للحق مكانا فهو مشبه " اهـ، وأيد ملا علي القاري كلام ابن عبد السلام بقوله (2): "ولا شك أن ابن عبد السلام من أجل العلماء وأوثقهم، فيجب الاعتماد على نقله " اهـ.
11- وقال الإمام المجتهد محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه إمام المذهب الشافعي (204 ص) ما نصه (3): "إنه تعالى كان ولا مكان فخلق المكان وهو على صفة الأزلية كما كان قبل خلقه المكان لا يجوز عليه التغيير في ذاته ولا التبديل في صفاته " اهـ.
12- وأما الإمام المجتهد الجليل أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (241 هـ) رضي الله عنه إمام المذهب الحنبلي وأحد الأئمة
(1) نقله ملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر بعد أن انتهى من شرح رسالة الفقه الأكبر (ص/ 198).
(2) المصدر السابق.
(3) إتحاف السادة المتقن (2/ 24).
الأربعة، فقد ذكر الشيخ ابن حجر الهيتمي أنه كان من المنزهين لله تعالى عن الجهة والجسمية، ثم قال ابن حجر ما نصه (1): "وما اشتهر بين جهلة المنسوبين إلى هذا الإمام الأعظم المجتهد من أنه قائل بشىء سن الجهة أو نحوها فكذب وبهتان وافتراء عليه " اهـ.