نقصد بكلمة الطريقة طريق القرآن الكريم ونهج الرسول وأهل بيته وأصحابه الكرام ، أي الطريق المستقيم الذي ذكره الله في سورة فاتحة الكتاب : اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم
(1) أي طريق الحق والهداية طريق الله الذي نَعِمَ وفاز في الدنيا والآخرة من استقام عليه وألََََََّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهـم مـاءً غدقـا (2) .
ويتساءل البعض في عدم انتشار الدعـوة إلى الطريقة في صدر الإسلام وعدم ظهورها إلا بعد عهد الصحابة والتابعين والجواب لأنهم لم يكونوا في حاجة إليها وذلك لأن أهل ذلك العصر كانوا متصوفين أصلا وأهل ورع وتقوى ومجاهدة وكانوا قرب رسول الله يتبارون في الإقتداء به في كل أعماله وحركاته َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (3) ، كما إن أول مدرسة نشأت في المدينة المنورة وظهر فيها زهاد كثيرون منذ وقت مبكر تمسكوا بالقرآن وجعلوا الرسول قدوتهم في زهدهم وظلوا كذلك حتى أصبح الإمام علي الإمام الثاني في الطريقة بعد الرسول لكون سيدنا علي من أقرب الناس لرسول الله وأحبهم إليه وموضع سره وثقته وقال في حقه ما يعظم شأنه فوق كل ذي شأن فقال في موضع غدير خم : من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (4) فالأحاديث النبوية هذه أكدت عظمة علي وولايته فهو إمام الطريقة وبابها عملا بقول الرسول : أنا مدينة العلم وعلي بابها (5) وكان له تلاميذ من أصحاب الطريقة والصفاء والورع وهم من الصحابة ومن هؤلاء أبو ذر الغفاري المتوفى سنة (22هـ) وأبو عبيدة بن الجراح المتوفى سنة (81هـ) وسلمان الفارسي المتوفى سنة (26هـ) ومن التابعين سعيد بن المسيب المتوفى سنة (91هـ) وسالم بن عبد الله المتوفى سنة (106هـ) . وتعد مدرسة المدينة المنورة من كبرى المدارس للطريقة والتصوف الإسلامي وتليها مدرسة البصرة وكان شيخ هذه المدرسة الإمام الزاهد الحسن البصري المتـوفى سنة (110هـ) وهو من واضعي دعائم الطريقة البيعة (العهد) من سيدنا الإمام علي وأتم مدرسته على نهجه ومن ثم تتابعت الطريقة وانتقلت من شيخ إلى شيخ حتى وصل إلى عصر سلطان الأولياء والباز الأشهب الشيخ عبد القادر الكيلاني فأنشأ مدرسة كانت الوحيدة في عصره والتي كان المئات من محبي الطريقة وعلومها وأصحاب الزهد والورع والحقيقة يتوجهون إليها لينهلوا من مناهلها علوم الطريقة والشريعة والتصوف وذاعت شهرتها حتى اهتدى بها الكثير إلى طريق الحق والإيمان وكانت خير مدرسة يعظ فيها سيدنا الشيخ عبد القادر الكيلاني أفواجا من الناس والسالكين يفدون إليها لسماع الوعظ وكانت هذه المدرسة وشيخها سببا في هداية كثير من الضالين إلى طريق الحق وأصبحوا سالكين على نهج طريقته حيث إن كثيرا من المدن والبلدان فتحت في عهده ودخلوا في دين الله أفواجا .
وبعد ذلك لاحت في الأفق أنوار ساطعة تجسدت في شخصية مقدسة عظيمة وهي شخصية الشيخ عبد الكريم الشاه الكسنـزان الذي أنار الآفاق بوجوده وأشرقت الأرض بنوره المستمد من نور جده المصطفى محمد الذي أصبح علما من أعلام الطريقة والهدى ومنارا اهتدت به جموع من شتى أبقاع الأرض ومن بينهم الملوك والأمراء وكثير من العظماء كانوا يلقون بأنفسهم على عتبة بابه راجين نظرته وكانت كل هذه القدرات والمواهب الروحية هي امتداد ووصل وإحياء لمآثر جده المصطفى حيث تجلت في مدرسته (المدرسة الكسنـزانية) التي أحيت الدين الإسلامي ومبادئه السامية بجهاده وإرشاده المتواصل وسلوكه لقب بمحي الدين بعد الشيخ عبد القادر الكيلاني وبلغت منـزلته منـزلة لم يبلغها أحد .
وقد أنجبت المدرسة الكسنـزانية رجالا مؤمنين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فأصبحوا دعاة للطريقة وهداية الناس إلى طريق الخير والمحبة فكانوا خير من يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويتبعون سبيل الرشاد . وان ما ذكرناه آنفا من تاريخ الطريقة يؤكده قول الحافظ السيد محمد صديق الغماري رحمه الله عندما سئل عن أول من أسس الطريقة (التصوف) وهل بوحي سماوي ؟ فأجاب أما أول من أسس الطريقة فلتعلم إن الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس من الدين المحمدي ، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي محمد بعد ما بينها واحدا واحدا دينا بقوله: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم (6)وهو الإسلام والإيمان والإحسان .
فالإسلام إطاعة وعبادة ، والإيمان نور وعقيدة ، والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة . أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك (7) ثم قال السيد محمد صديق الغماري في رسالته تلك (فأنه - كما في الحديث - عبارة عن الأركان فمن أخل بهذا المقام (الإحسان) الذي هو الطريقة فدينه ناقص بلا شك لتركه ركنا من أركانه فغاية ما تدعو إليه الطـريقة وتشير إليه هو مقام الإحسـان بعد تصحـيح الإسلام والأيـمان)( .
وقال القشيري : أعلموا بأن المسلمين بعد رسول الله لم يتسم أفاضلهم في عصورهم بتسمية سوى صحبة الرسول إذ لا أفضلية فوقها فقيل لهم الصحابة ثم أختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس من لهم شدة عناية بأمر الدين الزهاد والعباد ثم ظهرت البدعة وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق أدعوا إن فيهم زهاد فأنفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة بأسم التصوف )(9) .
إن هذه الأدلة تؤكد على وجود الطريقة بمعناها الروحي في صدر الإسلام في عهد الرسول ولم تظهر بأسم التصوف لأنهم كانوا جميعا بصفة واحدة ، وبعد نكبة أهل بيت رسول الله وتغير نظام الخلافة الإسلامية اتجه الناس إلى الابتعاد عن التعاليم الإسلامية وجوهرها بين طامع في المال وخائف على نفسه فتأخرت الأعمال وتنافس الناس في الدنيا وحييت النفوس بعد موتها فتأخرت بذلك أنوار القلوب ووقع ما وقع في الدين وكادت الحقائق تنقلب ولم يزل ذلك إلى أن حصل وجوب التصدي لذلك التداعي والانحلال لحفظ قواعد وأصول الطريقة وفيما يأتي الأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد أزلية الطريقة :
الحديث الأول: أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي انه قال إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يـبطش بها ورجله التي يمشي بها وان سألني أعطيته وان استعاذ بي أعذته (10) صدق رسول الله .
الحديث الثاني: أخرج أبو نعيم في الحلية عن طريق طاووس عن أبي عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله يقول الله : إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ولم يتعاظم بها على خلقي وكف نفسه عن الشهوات ابتغاء مرضاتي فقطع نهاره في ذكري ولم يبت مصرا على خطيئته يطعم الجائع ويكسوا العاري ويرحم الضعيف ويؤوي الغريب فذاك الذي يضيء وجهه نور الشمس يدعوني فألبي ويسألني فأعطي ويقسم علي فأبر قسمه أجعل من الجهالة علما وفي الظلمة نورا أكلأه بقوتي واستحفظه ملائكتي .
الحديث الثالث: أخرج البزاز والبيهقي في الشعب عن ابن انس أن رسول الله لقي رجلا يقال له حارثة فقال: كيف أصبحت يا حارثة ، قال : أصبحت مؤمنا حقا فقال : إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك ، قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني انظر إلى عرش ربي وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني اسمع عواء أهل النار فقال : عرفت فالزم .
الحديث الرابع: أخرج الترمذي وحسنه شداد بن أوس قال: قال رسول الله الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني )(11) ، (الكيس) العاقل (من دان نفسه) من حاسبها .
الحديث الخامس: اخرج أبو الشيخ وابن حبان والبيهقي عن عمران بن الحصـين قـال: قال رسول الله : من انقطع إلى الله كفاه كل مؤونة ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها (12) .
الحديث السادس: أخرج الشيخان عن أبي هريرة في حديث سؤال جبريل عن الإحسان قال رسول الله : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك (13) .
الحديث السابع: أخرج الحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله أحبوا الفقراء وجالسوهم (14) .
ولو أردنا جمع جميع ما يتعلق بطريق الصوفية لطال بنا الكتاب ولنكتف بما أوردنا وفيه كفاية ان شاء الله من الدلالة على صحة أهل الطريقة .
ففي الحديث الأول بيان مبدأ نهج الطريقة ونهايته وذلك لان سالكي هذا النهج يـبدؤون بالمجاهدة ولا يزالون يجاهدون أنفسهم ويجتهدون في تطهير قلوبهم من كل ما يـباعد عن الله وتزيـينها بكل ما يقرب إليه من الأموال والأقوال والأعمال ولزوم الإقبال والمثول بين يديه في كل وقت من الأوقات وحال من الأحوال على حسب الامكان حتى يصلوا إلى مقام الفناء ، والواصل إلى مقام الفناء هو المحبوب الملحوظ والمربوب المحفوظ .
وفي الحديث الثاني تنويه عظيم بقدر أهل الطريقة وذلك لأن الخصال التي ذكرت فيه كلها من الأخلاق التي يتخلق بها أهل الطريقة ويحثون على التخلق بها .
وفي الحديث الثالث بيان مبدأ أهل الطريقة ونهايته فأن حارثة اخبر انه جاهد نفسه بالقيام والصيام والتجافي عن دار الغرور حتى مَنّ الله عليه بالوصول إلى عين اليقين .
وفي الحديث الرابع تنويه بقدر كل سالك صادق وذلك لان من أخلاق أهل الطريقة محاسبة النفس وتعمير كل وقت بما يليق ، قال الشافعي صحبت الصوفية واستفدت منهم ثلاث كلمات: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ، نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر ، الندم عصمة .
وفي الحديث الخامس الحث على التخلق بأخلاق أهل الطريقة إذ هم المنقطعون إلى ربهم المتخلقون بأخلاق نبيهم .
وفي الحديث السادس فيه إشارة جامعة لمنهج أهل الطريقة لأن اصل هذه الطريقة الخاصة كمال المعرفة ودوام المراقبة للحق سبحانه في الحركات والسكنات .
وفي الحديث السابع الحث على صحبة الصوفية ومجالستهم ، إذ الفقير الكامل هو الصوفي الصادق يتلذذ بفقره ويشهد فيه المنة لربه ويحمده عليه كما يحمده الغير على الغنى .
مما تقدم من الأحاديث الشريفة ودلالتها تبين لنا إن الطريقة هي روح الإسلام ولبه وأساسه وان كان اسمها ظهر فيما بعد فذلك لا يعني أنها ظهرت متأخرة وقال ابن خلدون في مقدمته :
( إن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين وَمَنْ بعدهم طريقة الحق والهداية ، وأهلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق والخلوة للعبادة ، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف ، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وضج الناس إلى مخالطة الدنيا إختص المقبلون على العبادة بأسم الصوفية والمتصوفة ) (15) ، أي أهل الطريقة .
من ذلك يتبين إن إطلاق اسم معين أو حالة كالطريقة ليس كأطلاق اسم معين على مولود جديد من بني آدم بل يمر ذلك الإطلاق بتطورات تبعا لتطور ذلك المفهوم كما هو الحال في مصطلح (القراء والفقهاء والمحدثين) ذلك إن أناسا ظهروا فاختصوا بقراءة القرآن الكريم من الرعيل الأول فسموا بالقراء وظهرت جماعة تعنى بالحديث فسميت بالمحدثين وتكونت جماعة تعنى ببيان الرأي والفتوى في الأحكام الشرعية سميت بالفقهاء ثم اعترت هذه المصطلحات تطورت معروفة في الدلالة على معانيها كما هو الحال في المستحدثات الجديدة كالميكانيكي والكهربائي وغيرها من التسميات ، وكذلك أطلق اسم المريد أو الصوفي على المرء الذي اعتزل مباهج الدنيا والحياة ، وتوجه بقلب خاشع ولسان ذاكر وأدب جم إلى محراب العبادة قائم الليل صائم النهار يـبتغي رضوان الله وحده ، جمع بين طهارة الجوارح وزكاة النفس وكان ممن وقفوا موقف الاستجابة للأمر الإلهي وَذَروا ظاهِرَ ألإثْمِ وَباطِنَهُ (16) ، ويواظب على ذكر لا إله إلا الله ، أو ذكر الله ألله ، مع حضور القلب . فالرسول الكريم حامل راية الإسلام كان التصوف ديدنه قبل البعثة فما ورد عنه في اعتزال الناس وانقطاعه إلى الله في غار (حراء) فبل البعثة لا اختلاف فيه .
ومما تجد به الإشارة ذهاب البعض إلى إن الفلسفة مصدر للطريقة وأساس لها وهذا غير صائب لاختلاف الطريق والمنحى لكل منها ، وللمعنى ذاته لا يجوز اعتبار التصوف الهندي أو الصيني من المؤثرات التي تأثرت بها الطريقة ذلك إن الطريقة ، ذلك لأن نهج أهل الطريقة (أصيل نابع من الكتاب والسنة) .
إن حقائق الفلسفة اليونانية وأخبار حكماء الهند والصين وفارس نُقلت إلى العربية في القرنين الثاني والثالث الهجريين حيث ترجمت كتب الفلسفة اليونانية إلى العربية في عهد هارون الرشيد (766- 809م) وفي عهد الخليفة المأمون (786- 833م) فلا الفلسفة اليونانية القديمة ولا الفلسفة الجديدة لأفلوطين المشهورة (بفلسفة الاسكندراني) أو فلسفة أفلوطون الجديدة المنسوبة إلى أفلوطين (203- 270م) بذات اثر في التصوف الإسلامي ، ويبدو إن السبب الذي دفع المستشرقين إلى هذا الوهم ، هو وجود بعض التشابه في منطلقات بعض من رجال الطريقة ورجال الفلسفة لا سيما في نطاق فلسفة أفلوطين ، وهو في الحقيقة استقراء ناقص لا يُحتج به ، وان الحكم بمقتضى التشابه يتطلب في الأقل مقارنة علمية بين عدد من الفلاسفة وعدد من كبار مشايخ الطريقة (يكون الحد الأدنى للرؤية المشتركة) يجري فيها التحليل الفكري بشكل موضوعي لأرائهم في الفلسفة والطريقة دون الركون إلى بعض المواقف او الأقوال النادرة لبعض المشايخ ليس إلا .
والحقيقة إن أهداف الطريقة وغايتها لا تلتقي مع أهداف الفلسفة وغايتها ، ذلك إن الإسلام هو أساس الطريقة ، وغايتها هو الأيمان بوحدانية الله سبحانه والالتزام بشريعة القرآن في العقيدة والتعامل والسلوك الذاتي والاجتماعي في ضوء السيرة النبوية المطهرة ، وقد أجمع كبار مشايخ الطريقة على أن الطريقة هي الوقوف عند حدود الإسلام ولكنه وقوف لا يكتفي بالظاهر بل يتعدى الى القلب حتى يحقق تعاليم القرآن الكريم في سلوكه ويبلغ حق اليقين (مقام الإحسان) .
إن الإنسان لا ينفك في التأمل عما وراء الطبيعة والتساؤل عن حقيقتها وقد أختلف أفراده في هذه النـزعة فمنهم من كرَّس كل حياته للبحث عن هذا السر واختار العزلة عن الناس من أجله وأطلق على هؤلاء في الديانة المسيحية (الرهبان) ، ووصف الإسلام المؤمنين المتصوفين بأنهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (17) .
لذلك نستطيع القول إن الإنسان كان دائم البحث لمعرفة الطبيعة وما ورائها وان تشابه نهج الطريقة في هذه النزعة مع الاتجاه العبادي التنسكي للانسان قبل الإسلام ذلك لا يعني تأثرها بنهج غير إسلامي في هذا المجال فهو تشابه في نزعة طبيعية لا تشابه في نهج مقصود وان الطريقة كما بينّا هي سلوك طريق سيدنا محمد في العبادة والتأمل والحياة .
ولو تأملنا في الحياة لوجدنا تشابها غريبا في كثير من ميادينها سببه تجانس الغريزة ، أو توارد الخاطر او تماثل الحاجات وطرق إشباعها وتشابه الظروف وعواملها ولم يتأثر اللاحق بالسابق ، وعلى سبيل المثال نذكر قصة العشق الذي ربط قيسا بليلى وهي قصة عرفت بقصة (مجنون ليلى) في الأدب العربي ، وهي نفسها تتكرر في قصة (روميو وجوليت) في الأدب الإنكليزي ، وفي قصة (مم وزين) في الأدب الكردي ، و(شيرين وفرهاد) في الأدب الفارسي .
في علم القانون شواهد عديدة على تشابه الأعراف القانونية في بلاد تتشابه الظروف الاجتماعية والاقتصادية فيها .
فاذا كان نهج الطريقة فيه بعض الشبه مع اتجاه في السلوك الإنساني قد ظهر بشكل أو بآخر قبله فان هذا لا يعني علاقة امتداد في الوجود بل يعني علاقة تشابه في تطلع الإنسان ذاته .
فالطريقة: هي سلوك حددت الشريعة الإسلامية مقامها ووضع كبار مشايخ الطريقة حقائقها .
(1) أي طريق الحق والهداية طريق الله الذي نَعِمَ وفاز في الدنيا والآخرة من استقام عليه وألََََََّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهـم مـاءً غدقـا (2) .
ويتساءل البعض في عدم انتشار الدعـوة إلى الطريقة في صدر الإسلام وعدم ظهورها إلا بعد عهد الصحابة والتابعين والجواب لأنهم لم يكونوا في حاجة إليها وذلك لأن أهل ذلك العصر كانوا متصوفين أصلا وأهل ورع وتقوى ومجاهدة وكانوا قرب رسول الله يتبارون في الإقتداء به في كل أعماله وحركاته َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (3) ، كما إن أول مدرسة نشأت في المدينة المنورة وظهر فيها زهاد كثيرون منذ وقت مبكر تمسكوا بالقرآن وجعلوا الرسول قدوتهم في زهدهم وظلوا كذلك حتى أصبح الإمام علي الإمام الثاني في الطريقة بعد الرسول لكون سيدنا علي من أقرب الناس لرسول الله وأحبهم إليه وموضع سره وثقته وقال في حقه ما يعظم شأنه فوق كل ذي شأن فقال في موضع غدير خم : من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (4) فالأحاديث النبوية هذه أكدت عظمة علي وولايته فهو إمام الطريقة وبابها عملا بقول الرسول : أنا مدينة العلم وعلي بابها (5) وكان له تلاميذ من أصحاب الطريقة والصفاء والورع وهم من الصحابة ومن هؤلاء أبو ذر الغفاري المتوفى سنة (22هـ) وأبو عبيدة بن الجراح المتوفى سنة (81هـ) وسلمان الفارسي المتوفى سنة (26هـ) ومن التابعين سعيد بن المسيب المتوفى سنة (91هـ) وسالم بن عبد الله المتوفى سنة (106هـ) . وتعد مدرسة المدينة المنورة من كبرى المدارس للطريقة والتصوف الإسلامي وتليها مدرسة البصرة وكان شيخ هذه المدرسة الإمام الزاهد الحسن البصري المتـوفى سنة (110هـ) وهو من واضعي دعائم الطريقة البيعة (العهد) من سيدنا الإمام علي وأتم مدرسته على نهجه ومن ثم تتابعت الطريقة وانتقلت من شيخ إلى شيخ حتى وصل إلى عصر سلطان الأولياء والباز الأشهب الشيخ عبد القادر الكيلاني فأنشأ مدرسة كانت الوحيدة في عصره والتي كان المئات من محبي الطريقة وعلومها وأصحاب الزهد والورع والحقيقة يتوجهون إليها لينهلوا من مناهلها علوم الطريقة والشريعة والتصوف وذاعت شهرتها حتى اهتدى بها الكثير إلى طريق الحق والإيمان وكانت خير مدرسة يعظ فيها سيدنا الشيخ عبد القادر الكيلاني أفواجا من الناس والسالكين يفدون إليها لسماع الوعظ وكانت هذه المدرسة وشيخها سببا في هداية كثير من الضالين إلى طريق الحق وأصبحوا سالكين على نهج طريقته حيث إن كثيرا من المدن والبلدان فتحت في عهده ودخلوا في دين الله أفواجا .
وبعد ذلك لاحت في الأفق أنوار ساطعة تجسدت في شخصية مقدسة عظيمة وهي شخصية الشيخ عبد الكريم الشاه الكسنـزان الذي أنار الآفاق بوجوده وأشرقت الأرض بنوره المستمد من نور جده المصطفى محمد الذي أصبح علما من أعلام الطريقة والهدى ومنارا اهتدت به جموع من شتى أبقاع الأرض ومن بينهم الملوك والأمراء وكثير من العظماء كانوا يلقون بأنفسهم على عتبة بابه راجين نظرته وكانت كل هذه القدرات والمواهب الروحية هي امتداد ووصل وإحياء لمآثر جده المصطفى حيث تجلت في مدرسته (المدرسة الكسنـزانية) التي أحيت الدين الإسلامي ومبادئه السامية بجهاده وإرشاده المتواصل وسلوكه لقب بمحي الدين بعد الشيخ عبد القادر الكيلاني وبلغت منـزلته منـزلة لم يبلغها أحد .
وقد أنجبت المدرسة الكسنـزانية رجالا مؤمنين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فأصبحوا دعاة للطريقة وهداية الناس إلى طريق الخير والمحبة فكانوا خير من يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويتبعون سبيل الرشاد . وان ما ذكرناه آنفا من تاريخ الطريقة يؤكده قول الحافظ السيد محمد صديق الغماري رحمه الله عندما سئل عن أول من أسس الطريقة (التصوف) وهل بوحي سماوي ؟ فأجاب أما أول من أسس الطريقة فلتعلم إن الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس من الدين المحمدي ، إذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي محمد بعد ما بينها واحدا واحدا دينا بقوله: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم (6)وهو الإسلام والإيمان والإحسان .
فالإسلام إطاعة وعبادة ، والإيمان نور وعقيدة ، والإحسان مقام مراقبة ومشاهدة . أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك (7) ثم قال السيد محمد صديق الغماري في رسالته تلك (فأنه - كما في الحديث - عبارة عن الأركان فمن أخل بهذا المقام (الإحسان) الذي هو الطريقة فدينه ناقص بلا شك لتركه ركنا من أركانه فغاية ما تدعو إليه الطـريقة وتشير إليه هو مقام الإحسـان بعد تصحـيح الإسلام والأيـمان)( .
وقال القشيري : أعلموا بأن المسلمين بعد رسول الله لم يتسم أفاضلهم في عصورهم بتسمية سوى صحبة الرسول إذ لا أفضلية فوقها فقيل لهم الصحابة ثم أختلف الناس وتباينت المراتب فقيل لخواص الناس من لهم شدة عناية بأمر الدين الزهاد والعباد ثم ظهرت البدعة وحصل التداعي بين الفرق فكل فريق أدعوا إن فيهم زهاد فأنفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة بأسم التصوف )(9) .
إن هذه الأدلة تؤكد على وجود الطريقة بمعناها الروحي في صدر الإسلام في عهد الرسول ولم تظهر بأسم التصوف لأنهم كانوا جميعا بصفة واحدة ، وبعد نكبة أهل بيت رسول الله وتغير نظام الخلافة الإسلامية اتجه الناس إلى الابتعاد عن التعاليم الإسلامية وجوهرها بين طامع في المال وخائف على نفسه فتأخرت الأعمال وتنافس الناس في الدنيا وحييت النفوس بعد موتها فتأخرت بذلك أنوار القلوب ووقع ما وقع في الدين وكادت الحقائق تنقلب ولم يزل ذلك إلى أن حصل وجوب التصدي لذلك التداعي والانحلال لحفظ قواعد وأصول الطريقة وفيما يأتي الأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد أزلية الطريقة :
الحديث الأول: أخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي انه قال إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يـبطش بها ورجله التي يمشي بها وان سألني أعطيته وان استعاذ بي أعذته (10) صدق رسول الله .
الحديث الثاني: أخرج أبو نعيم في الحلية عن طريق طاووس عن أبي عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله يقول الله : إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي ولم يتعاظم بها على خلقي وكف نفسه عن الشهوات ابتغاء مرضاتي فقطع نهاره في ذكري ولم يبت مصرا على خطيئته يطعم الجائع ويكسوا العاري ويرحم الضعيف ويؤوي الغريب فذاك الذي يضيء وجهه نور الشمس يدعوني فألبي ويسألني فأعطي ويقسم علي فأبر قسمه أجعل من الجهالة علما وفي الظلمة نورا أكلأه بقوتي واستحفظه ملائكتي .
الحديث الثالث: أخرج البزاز والبيهقي في الشعب عن ابن انس أن رسول الله لقي رجلا يقال له حارثة فقال: كيف أصبحت يا حارثة ، قال : أصبحت مؤمنا حقا فقال : إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك ، قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني انظر إلى عرش ربي وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني اسمع عواء أهل النار فقال : عرفت فالزم .
الحديث الرابع: أخرج الترمذي وحسنه شداد بن أوس قال: قال رسول الله الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني )(11) ، (الكيس) العاقل (من دان نفسه) من حاسبها .
الحديث الخامس: اخرج أبو الشيخ وابن حبان والبيهقي عن عمران بن الحصـين قـال: قال رسول الله : من انقطع إلى الله كفاه كل مؤونة ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها (12) .
الحديث السادس: أخرج الشيخان عن أبي هريرة في حديث سؤال جبريل عن الإحسان قال رسول الله : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك (13) .
الحديث السابع: أخرج الحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله أحبوا الفقراء وجالسوهم (14) .
ولو أردنا جمع جميع ما يتعلق بطريق الصوفية لطال بنا الكتاب ولنكتف بما أوردنا وفيه كفاية ان شاء الله من الدلالة على صحة أهل الطريقة .
ففي الحديث الأول بيان مبدأ نهج الطريقة ونهايته وذلك لان سالكي هذا النهج يـبدؤون بالمجاهدة ولا يزالون يجاهدون أنفسهم ويجتهدون في تطهير قلوبهم من كل ما يـباعد عن الله وتزيـينها بكل ما يقرب إليه من الأموال والأقوال والأعمال ولزوم الإقبال والمثول بين يديه في كل وقت من الأوقات وحال من الأحوال على حسب الامكان حتى يصلوا إلى مقام الفناء ، والواصل إلى مقام الفناء هو المحبوب الملحوظ والمربوب المحفوظ .
وفي الحديث الثاني تنويه عظيم بقدر أهل الطريقة وذلك لأن الخصال التي ذكرت فيه كلها من الأخلاق التي يتخلق بها أهل الطريقة ويحثون على التخلق بها .
وفي الحديث الثالث بيان مبدأ أهل الطريقة ونهايته فأن حارثة اخبر انه جاهد نفسه بالقيام والصيام والتجافي عن دار الغرور حتى مَنّ الله عليه بالوصول إلى عين اليقين .
وفي الحديث الرابع تنويه بقدر كل سالك صادق وذلك لان من أخلاق أهل الطريقة محاسبة النفس وتعمير كل وقت بما يليق ، قال الشافعي صحبت الصوفية واستفدت منهم ثلاث كلمات: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك ، نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر ، الندم عصمة .
وفي الحديث الخامس الحث على التخلق بأخلاق أهل الطريقة إذ هم المنقطعون إلى ربهم المتخلقون بأخلاق نبيهم .
وفي الحديث السادس فيه إشارة جامعة لمنهج أهل الطريقة لأن اصل هذه الطريقة الخاصة كمال المعرفة ودوام المراقبة للحق سبحانه في الحركات والسكنات .
وفي الحديث السابع الحث على صحبة الصوفية ومجالستهم ، إذ الفقير الكامل هو الصوفي الصادق يتلذذ بفقره ويشهد فيه المنة لربه ويحمده عليه كما يحمده الغير على الغنى .
مما تقدم من الأحاديث الشريفة ودلالتها تبين لنا إن الطريقة هي روح الإسلام ولبه وأساسه وان كان اسمها ظهر فيما بعد فذلك لا يعني أنها ظهرت متأخرة وقال ابن خلدون في مقدمته :
( إن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين وَمَنْ بعدهم طريقة الحق والهداية ، وأهلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق والخلوة للعبادة ، وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف ، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وضج الناس إلى مخالطة الدنيا إختص المقبلون على العبادة بأسم الصوفية والمتصوفة ) (15) ، أي أهل الطريقة .
من ذلك يتبين إن إطلاق اسم معين أو حالة كالطريقة ليس كأطلاق اسم معين على مولود جديد من بني آدم بل يمر ذلك الإطلاق بتطورات تبعا لتطور ذلك المفهوم كما هو الحال في مصطلح (القراء والفقهاء والمحدثين) ذلك إن أناسا ظهروا فاختصوا بقراءة القرآن الكريم من الرعيل الأول فسموا بالقراء وظهرت جماعة تعنى بالحديث فسميت بالمحدثين وتكونت جماعة تعنى ببيان الرأي والفتوى في الأحكام الشرعية سميت بالفقهاء ثم اعترت هذه المصطلحات تطورت معروفة في الدلالة على معانيها كما هو الحال في المستحدثات الجديدة كالميكانيكي والكهربائي وغيرها من التسميات ، وكذلك أطلق اسم المريد أو الصوفي على المرء الذي اعتزل مباهج الدنيا والحياة ، وتوجه بقلب خاشع ولسان ذاكر وأدب جم إلى محراب العبادة قائم الليل صائم النهار يـبتغي رضوان الله وحده ، جمع بين طهارة الجوارح وزكاة النفس وكان ممن وقفوا موقف الاستجابة للأمر الإلهي وَذَروا ظاهِرَ ألإثْمِ وَباطِنَهُ (16) ، ويواظب على ذكر لا إله إلا الله ، أو ذكر الله ألله ، مع حضور القلب . فالرسول الكريم حامل راية الإسلام كان التصوف ديدنه قبل البعثة فما ورد عنه في اعتزال الناس وانقطاعه إلى الله في غار (حراء) فبل البعثة لا اختلاف فيه .
ومما تجد به الإشارة ذهاب البعض إلى إن الفلسفة مصدر للطريقة وأساس لها وهذا غير صائب لاختلاف الطريق والمنحى لكل منها ، وللمعنى ذاته لا يجوز اعتبار التصوف الهندي أو الصيني من المؤثرات التي تأثرت بها الطريقة ذلك إن الطريقة ، ذلك لأن نهج أهل الطريقة (أصيل نابع من الكتاب والسنة) .
إن حقائق الفلسفة اليونانية وأخبار حكماء الهند والصين وفارس نُقلت إلى العربية في القرنين الثاني والثالث الهجريين حيث ترجمت كتب الفلسفة اليونانية إلى العربية في عهد هارون الرشيد (766- 809م) وفي عهد الخليفة المأمون (786- 833م) فلا الفلسفة اليونانية القديمة ولا الفلسفة الجديدة لأفلوطين المشهورة (بفلسفة الاسكندراني) أو فلسفة أفلوطون الجديدة المنسوبة إلى أفلوطين (203- 270م) بذات اثر في التصوف الإسلامي ، ويبدو إن السبب الذي دفع المستشرقين إلى هذا الوهم ، هو وجود بعض التشابه في منطلقات بعض من رجال الطريقة ورجال الفلسفة لا سيما في نطاق فلسفة أفلوطين ، وهو في الحقيقة استقراء ناقص لا يُحتج به ، وان الحكم بمقتضى التشابه يتطلب في الأقل مقارنة علمية بين عدد من الفلاسفة وعدد من كبار مشايخ الطريقة (يكون الحد الأدنى للرؤية المشتركة) يجري فيها التحليل الفكري بشكل موضوعي لأرائهم في الفلسفة والطريقة دون الركون إلى بعض المواقف او الأقوال النادرة لبعض المشايخ ليس إلا .
والحقيقة إن أهداف الطريقة وغايتها لا تلتقي مع أهداف الفلسفة وغايتها ، ذلك إن الإسلام هو أساس الطريقة ، وغايتها هو الأيمان بوحدانية الله سبحانه والالتزام بشريعة القرآن في العقيدة والتعامل والسلوك الذاتي والاجتماعي في ضوء السيرة النبوية المطهرة ، وقد أجمع كبار مشايخ الطريقة على أن الطريقة هي الوقوف عند حدود الإسلام ولكنه وقوف لا يكتفي بالظاهر بل يتعدى الى القلب حتى يحقق تعاليم القرآن الكريم في سلوكه ويبلغ حق اليقين (مقام الإحسان) .
إن الإنسان لا ينفك في التأمل عما وراء الطبيعة والتساؤل عن حقيقتها وقد أختلف أفراده في هذه النـزعة فمنهم من كرَّس كل حياته للبحث عن هذا السر واختار العزلة عن الناس من أجله وأطلق على هؤلاء في الديانة المسيحية (الرهبان) ، ووصف الإسلام المؤمنين المتصوفين بأنهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (17) .
لذلك نستطيع القول إن الإنسان كان دائم البحث لمعرفة الطبيعة وما ورائها وان تشابه نهج الطريقة في هذه النزعة مع الاتجاه العبادي التنسكي للانسان قبل الإسلام ذلك لا يعني تأثرها بنهج غير إسلامي في هذا المجال فهو تشابه في نزعة طبيعية لا تشابه في نهج مقصود وان الطريقة كما بينّا هي سلوك طريق سيدنا محمد في العبادة والتأمل والحياة .
ولو تأملنا في الحياة لوجدنا تشابها غريبا في كثير من ميادينها سببه تجانس الغريزة ، أو توارد الخاطر او تماثل الحاجات وطرق إشباعها وتشابه الظروف وعواملها ولم يتأثر اللاحق بالسابق ، وعلى سبيل المثال نذكر قصة العشق الذي ربط قيسا بليلى وهي قصة عرفت بقصة (مجنون ليلى) في الأدب العربي ، وهي نفسها تتكرر في قصة (روميو وجوليت) في الأدب الإنكليزي ، وفي قصة (مم وزين) في الأدب الكردي ، و(شيرين وفرهاد) في الأدب الفارسي .
في علم القانون شواهد عديدة على تشابه الأعراف القانونية في بلاد تتشابه الظروف الاجتماعية والاقتصادية فيها .
فاذا كان نهج الطريقة فيه بعض الشبه مع اتجاه في السلوك الإنساني قد ظهر بشكل أو بآخر قبله فان هذا لا يعني علاقة امتداد في الوجود بل يعني علاقة تشابه في تطلع الإنسان ذاته .
فالطريقة: هي سلوك حددت الشريعة الإسلامية مقامها ووضع كبار مشايخ الطريقة حقائقها .